recent
أخبار ساخنة

حضن الدب


قال تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا"

هل من الممكن أن أحداً يقتل ابنه بالحب؟ ... هل من الممكن أن يقتل أباً ابنه من شدة الخوف عليه ...

هناك بعيداً بعيداً جداً في سجون الاحتلال جمعتني الأقدار بهما, عندما دخلت الزنزانة استقبلني عدنان بالحب والعطف والرعاية, كان له في الأسر خمس سنين أو يزيد, كان محكوماً بثلاث مؤبدات و100عام,  وأنا محكوم بالمؤبد, فكنت على يقين أن مصيري ارتبط بمصيره وأننا يجب أن نكمل الحياة معاً مهما كان الظرف قاسياً والحياة مستحيلة, كان لعدنان زوجة وأطفال, وكنت شاباً صغيراً أبلغ من العمر تسعة عشر عاماً, وجد فيَّ عدنان ابنه الذي لم يره, فعندما تم القبض عليه كانت زوجته حامل بولده, مرت السنون تلو السنون, لا شيء جديد سوى أننا نكبر عاماً بعد عام ...

في صباح أحد الأيام من عام 2003م وصل إلى مسامعنا استشهاد عدد كبير من عائلة عدنان, والشهداء كانوا: ابنه البكر, وأخيه وابن أخيه, وأن ابنه الصغير محمد الذي لم يره يوماً مصاب وحالته خطيرة جداً, لا أدري كيف مرت الأيام علينا, أو كيف تحملنا كل تلك الاخبار المؤلمة, ولكنها الأقدار التي يجب أن نرضى بها شئنا أم أبينا ... لم نكن نعلم أن بعد كل تلك الآلام يخبأ الله لعدنان شيئاً جميلاً ..

 فُتح باب الزنزانة, والقادم أسير آخر ... لم يكن الوافد الجديد إلا محمد ابن عدنان المُصاب, الذي لم يُقدر له الموت ليلتقي بأبيه لأول مرة في الحياة في غياهب سجون لا تعرف إلا الألم والوجع والقهر ... التقيا وحضنا بعضهما طويلاً, ضحكا وضحكنا .. بكيا وبكينا ... رَقَصا ورَقَصنا ... كاد عدنان يُجن من السعادة أو الألم لا ندري ... فكل ما في السجون غريب عجيب ... علمنا من محمد أنه حُكم بثلاثة عشر عاماً ... فتنفس عدنان الصعداء ... فهي سنوات ستمر سريعاً أو بطيئاً لكن سيتنفس ابنه في النهاية عبير الحرية ..

وبدأ الأب يُمارس أبوته التي افتقدها, يغطيه إذا نام, يحرسه إذا غفا, يحضنه إذا ناما, يحتفظ له بطعامه القليل فيؤثره على نفسه, حتى قطعة الفاكهة التي كنا نحلم بها لم يعد عدنان يأكلها بل يعطيها لابنه, وذلك المرتب الضئيل الذي تخصصه وزارة الاسرى للأسرى ليشتروا به بعض الأشياء الضرورية من دكان السجن أصبح لمحمد .. لرفاهية محمد ... وتحول عدنان إلى سجان آخر يحاصر محمد كيفما توجه أو تحرك, حتى وصل الأمر به أنه خاف عليه من بقية الأسرى, ومنعه بالقوة أن يكلمهم أو يتواصل معهم, كان محمد في البداية يحتمل كل ذلك براً بأبيه ولكن ذلك لم يدم طويلاً .. فانفجر الابن غاضباً قائلاً مزمجراً: نعم أنت أبي, وعلى رأسي ولكن سامحني لا مشاعر لي تجاهك... أنا لست طفلاً أنا رجل .. عشت بدونك..  كبرت دون رعايتك .. أنا رجلٌ منذ الطفولة .. لم أعد أقوى على تمثيل دور الطفل المدلل .. واتجه نحو باب الزنزانة يطرقها بقوة يطلب أن ينتقل إلى زنزانة أخرى بعيداً عن أبيه .. فكان له ما أراد ..

هنا تدخلت أنا الابن الذي نسيه أباه عندما وجد ابنه الحقيقي, وطلبت منه أن يترك الموضوع لي, وأنه باستطاعتي أن اُعيد له ابنه الذي رفضه فوافق مستسلما, فلم يكن هناك خياراً آخر.

اقتربت من محمد قليلاً قليلاً حتى صادقته وأصبحت له رفيقاً حميماً, وأصبحت حلقة الوصل بين الابن وأبيه, أجلس إليهما أُضحكهما, أمارس دور المرشد النفسي لكليهما, فسنين السجن كفيلة أن تعلمك كل شيء ... ورويداً رويداً عادت علاقتهما تتحسن لكن دون أن يمارس الأب أبوته الجياشة, كان محمد يعشق الرياضة ويكره الدراسة والنظام والانضباط, والسجن دولة مصغرة, يخضع الجميع لقانونه, كان على محمد أن يتعلم ويأخذ البكالوريوس فرفض في البداية ولكن مع التشجيع والتحفيز التحق بالجامعة, وأصبح ينجح في المواد الدراسية بصعوبة بالغة, وكلما نجح في مادة كنا نحتفل به وكأننا في عرس ... إلى أن صدر قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية بحرمان الأسرى من التعليم في الجامعات العبرية.

كان قد مضى على محمد في السجن ثمان سنوات عندما تمت صفقة الأحرار عام 2011م, وكنت أنا وعدنان ضمن المفرجين عنهم, فالصفقة كان من شروطها الإفراج عن الأحكام العالية, خرجنا من سجون الأسر, وبقي محمد يُنهي محكوميته ... وفي عام 2016م خرج محمد من الأسر في عرس فلسطيني مهيب, ليجتمع مع والده في بيت واحد, فيتزوج محمد وينجب ولداً أطلق عليه اسم أبيه.





     بقلم: رهف محمد حنيدق





اشترك في قناتي تيوب

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

google-playkhamsatmostaqltradent