خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ
مصطفى
محمد أبو السعود
فكرة
الكتابة عن العزل وهذا الواقع المؤلم أو عن هذه الحياة التي هي خارج أجواء الحياة،
أو بالتوصيف الدقيق هي وسط ما بين عالم الأحياء وعالم الأموات "البرزخ"
والتي هي للبرزخ أقرب، هذه الفكرة راودتني منذُ زمنٍ، بل منذ العزلة الأولى التي
استمرت ثلاثة أعوام من 1997 حتى منتصف2000 وقد كانت لي محاولات كثيرة سجلت وقتها
ودونت على بعض كراريسي يوميات وأحداثاً ومواقف ومشاعر وأحاسيس.
عزيزي
القارئ:
ما
سبق هي فقرة وردت في كتاب "خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ" لصاحبه الأسير
حSن سلامة، والذي قاد
سلسلة عمليات الثأر المقدس رداً على اغتيال القائد يحيى عيAاش،
فحكموه ب 48 مؤبداً و35 عاماً، بدأت عام1997، ظنا بأن ذلك يشفي غليلهم منه.
كتب
صاحبنا حسن مذكراته في بقعة جغرافية صغيرة والتي لا تتجاوز نصف مساحة الغرفة
العادية 2*2م مربع، تلك المساحة هي زنزانة انفرادية عاش فيها ثلاثة
عشر عام على مرحلتين، يعني 5000 يوم، لك أن تتصور ذلك!
قرأتُ
المذكرات، ذُهلت مما قرأت، أعجبني صمود حسن، فرفعت القبعة احتراماً له، وكنت أرفع
حاجبّي دهشةً، وأنزلهما بعد زوال الدهشة، حيث أضحكنا حسن وأبكانا، أشعرنا بضعفنا
وبقوته، وأخذنا إلى عالمه الملئ بالقصص التي لا تنتهي، وأشعرنا كم هي النعم التي
نحن فيها، وهو يفتقدها، والتي تبدأ بحرية التنقل ولا تنتهي بحرية اختيار زمان
ومكان ومدة النوم.
قرأت
المذكرات فساءني وحشية الاحتلال في التعامل مع الأAسرى،
حيث الحرمان من أبسط الحقوق، فالخيارات في السجن ضيقة جداً أيها الناس، وعلى
الأسير المقارنة في الاختيار ما بين السئ والأسوء، حقوق الأسير أخر اهتمامات الآسر،
إن مرض الأسير، فالإهمال هو العلاج، حتى احتضانه لعائلته وأولاده حين الزيارة يخضع
لمعايير، وليس له أن يختار من يرافقه في الزنزانة الانفرادية، ولا يملك أن يأمر
عينيه للنوم حين يرغب، طقوسه اليومية لا موعد لها، هي خاضعة لمزاج السجان، وقس على
ذلك كل تفاصيل الحياة في السجن، وما على السجين إلى أن يقول" سمعاً
وطاعة".
كان
حسن يتمنى أن يرافقه في تلك الزنزانة أحد البشر الذين تعج بهم الكرة الأرضية لكن
للعدو رأي آخر، فقد جلبوا له رفقاء ليسوا بشراً، بل حشرات ذباب، صراصير، فئران
تعيش معه، وكأنهم يقولون له تلك الكائنات تليق بك، وأن تكرموا عليه بإنسان، فليكن مسجون
مجنون.
يُقال
في القانون الدولي الانساني "بلا مؤاخذة" بأن للسجين حقوق يجب أن يتمتع
بها"، لكن الواقع يقول بأن هذه الحقوق تقف عند بوابة السجون الصهيونية وتنتظر
طويلا اذن بالدخول، وما أن يسمح لها تكون التجاعيد قد غزت وجه الأسير وغيرت ملامحه
وفعل السجان بالسجين ما يحلو له" للسجان طبعا"، وحينها إما أن يكون
السجين قد مات، ولا زالت القوانين تنتظر رغم حرارة الصيف وبرودة الشتاء، وإما أن
يكون السجين قد خرج من السجن، دون أي تدخل من القوانين.
ورغم
مرارة السجن، فقد تخرج حسن من الجامعة دون أن يدخلها وقبل أن يخرج من السجن، وفي
السجن حدث لحسن ودون قصد منه ما لم يحدث لغيره، فقد قدر الله له أن يخطب الأسيرة
المحررة غفران زامل، ولم يوقع حسن عقد قرانه، لأنه كان في السجن ايضاً، وتلك قصة
أخرى.
أختم بما ختم به حسن كتابه، حيث صاغ رسالته
الأولى ومما جاء فيها: يا من تسكنون العالم الكبير الذي نسمع عنه دون أن نراه،
مكاني عالم صغير نحيا فيه مرارة الاعتقال والعزل، في هذا المكان الضيق الذي يضيق
أكثر وأكثر، كم يحلو لنا أن نتذكر ذلك الزمان الذي مضى، والذي قد يكون هو الصورة
الاجمل التي ما زلنا نحملها في قلوبنا وعقولنا.